قصة قصيرة :حكاية سعيد وكيكي
" يارب أنا عاوز أبقى زي كيكي " .
لم يتوقف سعيد
عن ترديد تلك الدعوة في سره بعد كل صلاة يؤديها في الزاوية القريبة من العمارة التي
يعمل فيها والده مختار.
لقد تحولت كيكي إلى هاجس سيطر على عقله منذ أن
رآها يوم السبت الماضي عندما ذهب لمساعدة أمه في تنظيف منزل مدام شاهيناز. لم يكن سعيد يحب مدام شاهيناز؛ لأنها كانت تنظر
باشمئزاز لقدميه العاريتين المتسختين وملابسه القديمة المليئة بالبقع والثقوب ووجهه
الشاحب الذي يظلله الغبار ثم تضع يدها فوق أنفها تأففًا وتشيح بوجهها عنه وتمضي.
كان يخاف أن
تتمادى في استعلائها عليه عندما يعمل لديها وكان خوفه في محله، فما أن فتحت باب
الشقة ووجدته يقف ملتصقًا بجلباب أمه حتى قطبت حاجبيها الرفيعين ولوت شفتيها
المصبوغتين باللون القرمزي في ضيق ثم أشارت له بسبابتها حتى يخلع حذائه قبل دخول الشقة،
خلع سعيد حذائه البالي المثقوب ودخل الشقة وراء أمه بخطوات حذرة.
أدرك لماذا أمرته مدام شاهيناز بخلع حذائه عندما شاهد
منزلها .
لقد رأى معظم بيوت سكان العمارة بحكم أنه كان
يوصل لهم الطلبات ولكنه لم ير من قبل منزلاً كهذا المنزل، عيناه الضيقتان لم
تستطيعا استيعاب حجم صالة الكبيرة الذي تضاهي في اتساعها ملعب قريته. خطف بصره ضوء نجفة ضخمة تتوسط الصالة مصنوعة من
حبات الكريستال الطويلة تعكس ضوء الشمس ثم
تعيد نشره في المكان. ذابت قدميه في نعومة السجاد العجمي الثقيل الذي يغطي الأرضية
والمطرز بأشكال هندسية متناسقة وخيوط رفيعة منمقة، أبهره منظر كراسي الفوتيه
المدهب الضخمة المسندة على دعائم خشبية راسخة تجاورها تماثيل صغيرة لأطفال نصف
عراة يعزفون على الآت موسيقية، صوت مدام شاهيناز الغليظ انتزعه من ذهوله، أمرته
وأمه أن يسارعا في العمل قبل عودة زوجها إلى المنزل.
بينما كانت الأم تنظف حجرة نوم مدام شاهيناز وزوجها، دخل
سعيد إلى الحجرة التي تجاورها لكي يقوم بكنس الأرض، لفحه هواء بارد منعش كان ينساب
من صندوق التكييف المركب فوق شباك الغرفة، وتسربت إلى أنفه رائحة ُمعطر بطعم
الفراولة، أحس باسترخاء في عضلاته وهو يقف في تلك الغرفة التي يطغي عليها اللون الوردي
فتبدو كأنها غرفة طفلة.
رأى فراشًا كبيرًا أبيض تغطيه ملاءة مشجرة برسوم على شكل
دببة صغيرة، استولت عليه الدهشة عندما وقعت عيناه على كتلة هلامية ضخمة من الفرو
الابيض الثقيل تجلس على الفراش وشعيراتها تتمايل مع نسمات الهواء الصادرة من
التكييف، بدت ملامح صاحبة هذا الفرو تتضح أمامه عندما اقترب منها واكتشف أنها قطة
بيضاء سمينة.
رأى عينيها
العسلتين الواسعتين تنفتحان فجأة وتنطلق منهما نظرة نارية قاسية نحوه جعلته يتجمد
في مكانه، رفعت رأسها الكبير لأعلى ثم فتحت فمها الكبير المرسوم على شكل ثمانية
لتكشف عن أنيابها، شكل الأنياب الحادة كنصل السكين كان كافيًا لإلقاء الرعب في قلب
سعيد، ارتدعت فرائصه وهب بالفرار من الحجرة.
قبل أن يضع يده
على مقبض الباب فوجئ بمدام شاهيناز تدخل الحجرة وهي تحمل صينية كبيرة عليها كوب
كبير من اللبن، وطبق صغير يحتوي على شرائح جبن أصفر مقطعة بعناية.
اندهش عندما رأى
وجه مدام شاهيناز العابس ينبسط ويتهلل ورآها لأول مرة تبتسم وهي تداعب قطتها وتمسد
شعرها بلمسات حانية وتقول لها بصوت ناعم يقطر حبا " صباح الخير يا كيكي يا جميلة ، يلا حضرت
لك فطارك وجبت لك الجبنة الرومي اللي بتحبيها ".
اكفه وجه مدام شاهيناز عندما رأت سعيدًا واقفًا ورائها
يحملق في طعام كيكي فأخذت تنهره " مالك واقف ليه كدا زي الصنم، ما تتحرك
وتكنس السجادة بس بالراحة عشان التراب ميضايقش كيكي، فاهم ؟.
هز سعيد رأسه بلا وعي وأخذ يمرر المكنسة فوق السجادة
بحركات عشوائية كسولة، بعد أن خرجت مدام شاهيناز من الحجرة توقف عن العمل وأخذ
يتأمل كيكي وهي تدس رأسها في طبق الجبن وتلتهمه ببطء شديد ثم تدس أنفها في الكوب
وتمتص اللبن بلسانها الطويل.
في تلك اللحظة
اشتد عليه الجوع وأخذ ينهش أحشائه وأحس بلعابه يغمر فمه. وضع أصبعه في فمه وأخذ
يعضه ويتخيل أنه يشاركها تناول الطعام وأن الجبن الرومي يذوب في فمه واللبن الصافي
يروي عطشه.
تذكر عندما ذهب
مع أمه الشهر الماضي إلى البقال من أجل شراء جبن رومي لأحد السكان، تملكه الفضول فطلب
من أمه أن تشتري له ولو مقدار صغير من الجبن حتى يعرف طعمه. نظرت له بحسرة وأخبرته
أن ذلك مستحيل لأن الجبن الرومي أغلى من اللحم.
شعر بالإحباط لأن قائمة الأطعمة الممنوعة عنه تزيد كل
يوم، حتى الأطعمة المسموحة له لا يستطيع أن يستمتع بها كما يجب لأن هناك خمسة
أفواه أخرى أكبر منه تشاركه في الطبق وتنهي الطعام قبل أن تمتد يده إليه، ولا تترك
له سوى الفتات الذي لا يكفي لسد رمقه وبناء عظامه.
إنه جائع بشدة والجوع يدق معدته بعنف، والطعام الذي
يشتهيه ويحلم بالتهامه يقف على بعد خطوات منه، لكنه لا يستطيع أن يقترب منه لأنه
من نصيب هذه المخلوقة السمينة التي ترمقه بنظرات كريهة مستنكرة.
حاول أن يهرب من جوعه فغادر حجرة كيكي، ومضى يعاون أمه في تنظيف باقي حجرات المنزل.
بعد أن كاد سعيد
وأمه ينتهيان من تنظيف المنزل تسللت إلى أنفه رائحة لحم مشوي شهي تتصاعد من المطبخ
يصاحبها دخان كثيف يغلف الهواء. رأى مدام شاهيناز تحمل طبقا يحتوي على قطع من اللحم وتمضي بها إلى حجرة كيكي
وتضعها أمامها في سرور.
لم يستطع سعيد أن يحتمل عذاب جوعه لفترة أطول فسارع
بالخروج من منزل مدام شاهيناز، عاد إلى الحجرة التي يعيش فيها مع أسرته في الدور
الأرضي للعمارة والتي لا تصل إليها الشمس ولا يدخلها الهواء، أدرك كم هي كئيبة
وضيقة وخانقة وقاتلة للروح عندما قارنها بالحجرة البيضاء الفارهة التي تعيش
فيها كيكي .
تساءل لماذا تعيش كيكي بمفردها في حجرة واسعة بينما يعيش
ستة أشخاص في حجرة أشبه بالجٌحر لا تزيد مساحتها عن أمتار؟، ولماذا تأكل الجبن
الرومي واللحم الطازج بينما يأكل هو وأسرته الطعام الحامض المتبقي من سكان العمارة
؟، ولماذا يعامله والده بقسوة شديدة ويضربه لأتفه خطأ رغم انه يطيعه أغلب الوقت
ويساعده في العمل بينما تعامل مدام شاهيناز كيكي بلطف وحنان بالغ وتحرص على راحتها
وسعادتها رغم أنها تجلس على الفراش متجهمة طوال اليوم ولا تفعل شيئًا سوى التهام
الطعام والنوم؟.
كان عقل سعيد أصغر من أن يفهم سبب الهوة الكبيرة التي
تفصل بين حياته التي تضج بالشقاء والحرمان وبين حياة كيكي المترفة المريحة. سمع
شيخ الجامع المجاور لهم يقول في خطبة الجمعة أن الفقر والثراء بيد الله وكلاهما
ابتلاء وعلى العبد أن يشكر الله ويصبر على ابتلاءه.
لم يقتنع أن
الثراء يمكن أن يكون ابتلاءً، ولم يفهم لماذا لم يخلق الله جميع الناس سواسية حتى
يتمتعون بالعيش الكريم والطعام الوفير؟
سمع الشيخ يقول أن الله يمكن أن يغير أحوال عباده للأحسن
ويستجيب لدعائهم إذا كان الدعاء صادقًا وإذا ألح العبد الذي كان يحصل عليه من
خدمة السكان. في الدعاء يوم، أخذ يدعو كل يوم أن يغير الله حاله حتى يستطيع
أن يعيش مثل كيكي، واظب على الإلحاح في الدعاء بعد كل صلاة معتقدًا أن حاله سيتغير
سريعًا مع تكرار الدعاء. مرت الأيام وساءت أحوال مختار والد سعيد مع ارتفاع
الأسعار وقلة الدخل
ظل الجوع ينهش
سعيد ويعذب أمعائه كلما يذهب لمساعدة أمه في تنظيف شقة مدام شاهيناز ويشاهد كيكي
وهي تلتهم الفواكه وتشرب اللبن في الصباح وتتناول غداءً مكونًا من الدجاج أو اللحم
المشوي أو اللانشون.
ظن أنه لكي يحصل على الاستجابة من الله لابد أن يغير من
دعائه وبدلًا من أن يدعو أن يعيش مثل كيكي لابد أن يدعو أن يكون مثلها أي أن يصبح
قطة. غير صيغة دعائه وطلب من الله أن
يحوله إلى قطة بيضاء جميلة مثل كيكي حتى يتبناه أحد الاثرياء ويعطيه الطعام بلا مقابل
ويعفيه من العمل وينتشله من الشقاء.
أصابه الاحباط بعد أن الح في الدعاء لعشرة أيام متواصلة
فذهب إلى شقيقه الأكبر محمود ليسأله:
- هو ربنا بيستجيب لأي دعوة ؟
رد عليه محمود بثقة :
- أيوه طالما دعوة بالخير مش بالشر.
- طيب ليه ربنا
مستجابش دعوتي ؟.
استغرب محمود أن أخوه الطفل الذي لم يتجاوز السابعة من
عمره لديه أحلام ودعوات فسأله :
- انت عايز ايه بقى يا فالح ؟
- انا عايز أبقى
زي كيكي.
أخذ يضحك وهو يسأله باندهاش :
- أنت بتهزر ؟.
- لا والله أنا بتكلم بجد، أنا نفسي أبقى قطة.
قال له مستنكرًا
:
-انت مجنون؟. ازاي عايز ربنا يسخطك ويخليك حيوان بعد لما كرمك
وخلقك إنسان؟.
رد عليه سعيد بحنق :
- أنا شايف اني لو
بقيت قطة هيبقى ربنا كده كرمني لأني مش هجوع أبدًا، وهاكل كل الاكل الحلو اللي
نفسي فيه، وهلاقي اللي يحن عليا بدل لما
انتم قاعدين تضربوني ومشغلني ليل ونهار .
- اكل إيه ؟، وهي كل حاجة في الدنيا الاكل، يلا امشي من
هنا أما أنت صحيح همك على بطنك.
شعر سعيد بالغضب لاستهانة شقيقه برغباته ومعاناته، ولكن
الحديث الذي دار بينهما جعله يدرك أن دعائه لن يُستجاب، وأن حياته كإنسان لن تتبدل
لأنه في نظر الله كائن عظيم وإن كان في نظر من حوله أقل استحقاقًا للعطف والحنان من
الحيوانات. فكر مليًا في حاله فغمره
التفاؤل وأحس أن يكون أفضل من حاضره، وأن فقره وجوعه لا يمكن أن يدوم وأن حالته المادية يمكن أن تتغير وتتحسن إذا استطاع
عندما يكبر أن يكون رجلًا غنيًا مثل زوج مدام شاهيناز ، هذا الرجل المهم الغامض
الذي يثير الرهبة والاحترام في نفوس جميع
سكان العمارة رغم أن لا أحد يعلم طبيعة عمله أو مصدر أمواله الطائلة .
الأمل الذي حداه في المستقبل لم يفلح في التقليل من
إحساسه بالجوع والحرمان كلما دخل إلى منزل مدام شاهيناز ورأى كيكي تتمرغ في النعيم،
وتلتهم طعامًا شهيًا وتزداد بدانة حتى تلاصقت أعضائها وتحولت إلى كتلة ضخمة من
الشحم.
في أحد الأيام وبينما كان سعيد ينظف شقة مدام شاهيناز ويقوم
بإزالة الغبار عن المرآة الكبرى القابعة في حجرة السفرة لمح مدام شاهيناز تخرج من
الطبخ وتتوجه نحو حجرة كيكي حاملة بين ذراعيها طبق مليء بطعام لم يستطع تبينه.
رآها تجر
قوائمها الثقيلة وتمضي نحو الحمام، بعد أن غادرت مدام شاهيناز حجرة كيكي وجد سعيد
نفسه يدخل الحجرة بدون وعي، رأى فوق الفراش طبقًا كبيرًا يحتوي على قطع صغيرة من
الدجاج المشوي تغطيها صلصة صفراء بلون الكركم، أحس بلسانه يغوص في لعابه، وأحس
بإمعانه تتقلص ثم تتمدد.
تصاعدت الدماء
إلى وجهه وتسارعت دقات قلبه بينما امتدت أصابعه الصغيرة المتشققة نحو قطعة الدجاج
الصغيرة التي تعلو الطبق، دسها في فمه ثم أغمض عينيه وأخذ يلوكها بسرعة.
قبل أن يعطي لنفسه الفرصة للاستمتاع بطعمها اللذيذ،
تناول قطعة أخرى ليسد بها هذا الخواء الذي لم يعرف شيئًا سواه منذ أن تفتحت عينيه
على الحياة، اجتاحت لذة الطعام جسده وملأته بالنشوة فأخذ ينتفض ويلهث وهو يلتهم
قطع الدجاج.
كان على وشك أن
يلتهم قطعة أخرى عندما اخترق أذنيه صوت مدام شاهيناز الغليظ وهي تصيح " إيه
ده، ايه اللي انت بتعمله ده، ازاي تمد ايديك على اكل كيكي ؟".
وقف الطعام في حلقه فأحس بالاختناق وبدلًا من أن يبلعه
بصقه على الأرض، فوجئ بمدام شاهيناز تنقض عليه وتصفعه على وجهه بعنف، الهبت الصفعة
وجهه وأسنانه، أحس بالدماء تجري في فمه. رفعت مدام شاهيناز عقيرتها وأخذت تسبه
وتلعن أهله بأقبح الألفاظ، دخلت عليها أم سعيد الحجرة لتعرف ماذا حدث، استولى
عليها الفزع عندما رأت الدم يسيل من فم ابنها الذي ارتمى في أحضانها وأخذ يبكي
بحرقة والإحساس بالمهانة والألم يغمره.
انزعجت أم سعيد من تطاول مدام شاهيناز على ابنها فأخذت
تربت عليه وتساعده في تجفيف الدم السائل من فمه بالمنديل، حاولت أن تخفي غضبها من
تجرؤ مدام شاهيناز على ضرب ابنها ، فقالت لها بهدوء :
- الواد مكانش يقصد، هو بس تلاقيه كان جعان.
هزت مدام شاهيناز رأسها بعناد :
- السرقة جريمة
حتى لو كان هيموت من الجوع ، انتي معرفتيش
تربي ابنك عشان كده طالع طفس وطماع ، انتم كلكم عالم جعانة وخسارة فيكم فلوس
الزكاة اللي بندفعها لكم، انتم قاعدين كل يوم تخلفوا في عيال لغاية لما مليتوا البلد وخنقتونا، والمصيبة إن عيالكم
طالعين جهلة وحرامية زيكم وبعدين تيجوا تلومونا على فقركم ، انتم كلكم لازم تموتوا عشان
البلد تنضف منكم، عارفة انا لو اقدر كنت بلغت عن ابنك البوليس.
ردت عليها أم سعيد بنظرة ذاهلة :
- بوليس، كل ده عشان اخد أكل القطة ؟ !!!.
- دي مش قطة، دي بنتي، فاهمة يعني ايه ؟، دي بنتي وأحسن
من كل البني ادمين عندي وأقل شعرياه بتنزل منها برقبتك إنتي وعيالك.
رأى سعيد كيكي تقف وراء صديقتها وتومئ برأسها كأنها تفهم
معنى كلامها وتتضامن معها وهي تنهر أمه التي اربد وجهها وتحجرت الدموع في عينيها
ثم ردت على مدام شاهيناز بصوت محتقن:
- ، بقى ده جزاتي بعد لما قعدت اخدمك كل السنين اللي
فاتت، وعمري ما مديت ايدي على أي حاجة عندك، وفي الأخر تقولي علينا حرامية وجرابيع
وتضربي ابني، كتر خيرك يا بنت الاصول.
- اطلعي بره
وضعت أم سعيد يديها على كتف ابنها ثم طأطأت رأسها وغادرت
المنزل بدون كلام، كانت تعلم أن من مصلحتها أن تكظم غيظها لأنها لو تشاجرت مع زوجة
رجل مهم مثل مدام شاهيناز ستدفع وهي زوجها ثمنًا فادحًا.
صوت اصطدام الباب جعل سعيد وامه ينتفضان وينكمشان في
مكانهما، ربتت أمه على كتفيه وقبلت رأسه ثم أخذت تواسيه بصوت حزين قائلة "
معلش يا بني أنا عارفة أنك عملت كده غصبًا عنك وإن الأكل اللي بحطه مش مقضيك ،
والله أنا لو معايا فلوس كنت نزلت اشتريت لك كل الاكل اللي نفسك فيه بس العين
بصيرة واليد قصيرة .
أحس سعيد لأول مرة أن أمه تشعر بوجعه وتتفهم حجم معاناته
ولكن عجزها عن تغيير الواقع هو ما يجعلها تتظاهر بالاستسلام واللامبالاة، دفاع أمه
المستميت عنه أمام مدام شاهيناز رفع مكانتها في قلبه وجعله يشعر بالذنب على فعلته.
احتضنها وتأسف لها فقبلته على وجنيته وطلبت منه أن ينسى كل ما حدث.
حاول سعيد بالفعل أن ينسى ولكنه فشل، ظلت نظرات كيكي
النارية وصفعة مدام شاهيناز المؤلمة تطارده لأيام طويلة في كوابيسه وكان كلما يلمح
أي سيدة بدينة ذات شعر أصفر تصعد إلى العمارة أو تنزل منها يتصور أنها مدام
شاهيناز فيركض نحو غرفته مختبئًا منها، لكن مع مرور الأيام والشهور هدأت أعصابه
وكاد تأثير تلك الحادثة عليه أن يزول.
في إحدى ليالي الشتاء الممطرة تناهي إلى سمعه صوت صرخات
مدوية تتردد في المنور، انتابه الهلع وهرع خارجًا من الحجرة. رفع رأسه إلى أعلى
لعله يستطيع أن يتبين مصدر تلك الصرخات لكن بدون جدوى.
لم تمر ساعة حتى
رأى مجموعة من الشباب ينزلون على السلالم حاملين مدام
شاهيناز فوق أعناقهم، استولت عليه الدهشة عندما رآها تصرخ وتتأوه بينما كانت
قدميها العملاقتين ملفوفتين في شاش، عرف بعد ساعات من والده أن كيكي هاجمت مدام
شاهيناز ومزقت كعبيها بأظافرها لأنها داست على ذيلها بدون أن تقصد، كان من المفترض
أن يفرح بهذا الخبر ولكنه على العكس وجد نفسه يشعر بالحزن والأسف على السيدة
العجوز التي أحبت قطتها بصدق ولم تلقً منها سوى الجحود.
0 تعليقات
رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته