لماذا يخشى المصريون التعبير عن أراءهم ؟
اعتدت أن اتعامل بشك وارتياب مع الأخبار التي تنشرها مراكز استطلاع الرأي العام والتي تظهر أراء الناس في النظام الحاكم أو في اداء الحكومة أو حتى الاستطلاعات التي تتعلق بنسب مشاهدة مسلسلات رمضان.
سبب اقتناعي أن أغلب نتائج استطلاعات الرأي العام في مصر مزيفة وغير دقيقة هو تجربة شخصية خضتها أثناء دراستي في كلية الإعلام جامعة القاهرة, تلك التجربة كانت من اغرب واعجب واطرف ما حدث لي في حياتي لأنها كشفت لي بوضوح عن جانب خفي من الشخصية المصرية.
التجربة بدأت في أوائل الألفية حيث كنت وقتها لا أزال طالبة بالفرقة الثالثة قسم إذاعة وتليفزيون, كنت أدرس مادة الرأي العام مع الدكتور عاطف العبد رحمه الله والذي كان وكيلا للكلية في الوقت نفسه. كنت احترم الدكتور عاطف لأنه كان يعاملنا بحب واحترام ورفق كأننا ابنائه وبناته, وكان يحرص على تعليمنا في كل محاضرة شيئا جديدا عن دور الإعلام في المجتمع وعن كيفية قياس أراء الناس في أي موضوع بشكل علمي ودقيق .
كان المطلوب من الطلبة أن يقوموا بتطبيق ما تعلموه فيصمموا استمارة استطلاع رأي لقياس اراء عشرين شخصا من طلبة الفرقة الثالثة في القنوات الفضائية, وقد اختار لي الدكتور قناة النيل للدراما. في تلك الفترة كانت قناة النيل للدراما مجهولة بالنسبة لمعظم الناس لأن أطباق الدش كانت لا تزال في بدايات انتشارها في مصر وكان معظم مشاهدي القنوات الفضائية من الطبقة الغنية, لذلك ادركت أنني سأفشل في العثور على عشرين شخصاً يشاهدون قناة النيل للدراما من طلاب الفرقة الرابعة.
رفعت يدي في المحاضرة ووقفت بكل جرأة لأطلب من الدكتور عاطف أن يسمح لي بأن اوسع دائرة استطلاع الرأي لكل طلبة الكلية وليس لطلاب الفرقة الثالثة فقط.
وجدت زميلاتي يبتسمن وينظرن لي بسخرية لم أفهم معناها إلا فترة بينما نظر لي الدكتور عاطف باندهاش شديد, ربما اندهش من جرأتي على مخالفة القواعد التي وضعها لاستطلاع الرأي, وربما اندهش لأني أخذت هذا الاستطلاع على محمل الجد وقررت أن أجريه فعلا. رغم ذلك هز رأسه موافقا على طلبي على مضض.
غمرني الارتياح وسارعت بطباعة استمارات الاستطلاع العشرين معتقدة أن مهمتي ستكون سهلة باعتبار أن زميلاتي يدرسون مثلي نفس المادة وبالتالي سوف يساعدوني على إجراء الاستطلاع.
بعد أن قدمت أول استمارة لإحدى زميلاتي وجدتها تنظر لي بارتياب كأني جاسوسة وتهز رأسها رفضا مدعية بأنها لا تشاهد القنوات الفضائية, تكرر هذا الموقف مع العديد من الطالبات إلى أن وافقت إحدى زميلاتي على تعبئة الاستمارة بشرط ألا تكتب اسمها. شعرت بالاستغراب من تصرفها وحاولت أن أهدأ من قلقها بتذكيرها أن الاستطلاع الذي اجريه ليس في السياسة وإنما في الإعلام, لكنها لم تقتنع بكلامي وأصرت على عدم كتابة اسمها بدعوى أن الاحتياط واجب.
شعرت بالضيق من موقفها الذي رأيته ينم عن جبن وخوف غير مبرر, مع ذلك واصلت تأدية مهمتي وقمت بالتجول بين المدرجات بين طلبة السنة الأولى والثانية على أمل في إيجاد أحد يشاهد قناة النيل للدراما, لكن محاولاتي قوبلت باستهزاء وتهكم وتجاهل يليق بشحاذة, شعرت بإهانة شديدة وأخذت اتساءل لماذا لا يدرك هؤلاء الطلبة أنني مجرد طالبة مثلهم تريد أن تطبق ما تعلمته وتحصل على درجات جيدة؟
فشلي في إيجاد أحد يوافق على تعبئة الاستمارات دفعني لأخالف القواعد رغما عني فقررت أن أوسع دائرة الاستطلاع لأجعله يشمل أي شخص أقابله في الكلية.
المدهش أن الطلبة خارج الكلية كانوا اكثر تعاونًا معي فوافق عدد قليل منهم على اجراء الاستطلاع لكن الغريب أن بعضهم كان يسألني عن الرأي الذي أريده أن اكتبه, كنت استغرب من خوفهم من الإفصاح عن رأيهم في قناة فضائية مغمورة ثم ابتسم لهم ببراءة وأقول" اكتبوا رأيكم الحقيقي ". كان يبدو عليهم التردد والخوف ثم يواصلون كتابة الإجابات بسرعة.
تبقت لدي استمارة واحدة فاضطررت أن أعطيها لإحدى جاراتي وهكذا انتهيت من إجراء الاستطلاع بصعوبة شديدة, نتيجة هذا الاستطلاع ليست علمية وليست دقيقة لأنها لم تٌجرى على العينة التي حددتها في الاستطلاع إلا أني لم أشعر بالذنب لأني قدمت لأستاذي نتائج مزيفة, لقد حاولت على الأقل أن أجري الاستطلاع بكل أمانة على عكس زميلاتي اللاتي كن أكثر دهاء مني ووفرن على أنفسهن التعب والمهانة وحمين أنفسهن من التعرض للاتهامات والشكوك, وقمن بتعبئة الاستمارات بأنفسهن أو بمساعدة أهلهن في صمت وحصلن في النهاية على نفس الدرجة التي حصلت عليها بدون أي مجهود.
اعتقدت أن الطلبة الذين رفضوا التعاون معي جبناء وأن خوفهم من إجراء الاستطلاع مبالغ فيه وغير مفهوم لأن معرفتي بما يدور في كواليس الجامعة كانت قاصرة. كان كل اهتمامي منصبا فقط على التعليم والمذاكرة فقط, لم اكن انخرط في الانشطة الطلابية, ولم أكن عضوة في أي أسرة, لذلك لم يكن لدي أي علم بوجود العصافير الذين يتم تجنيدهم من قبل أجهزة الأمن للتجسس على زملائهم, ولم أتخيل أن يظن الطلبة أنني واحدة منهم.
بعد أن مرت السنوات وانهيت دراستي وكبرت ونضجت وازداد اطلاعي على خفايا ما يدور في المجتمع وفهمت كيف يتم السيطرة على البلد بقبضة حديدية عن طريق الاجهزة الامنية ادركت مدى سذاجتي, والتمست العذر للطلبة الذين رفضوا التعاون معي, و الآن صرت مثلهم اخاف وارتاب واخشى البوح برأيي أو كتابة اسمي على أي ورقة.
تلك التجربة اثبتت لي أن أي شخص يدعي أنه يستطيع أن يقيس أراء المصريين في أي موضوع بدقة كاذب , وكل الأرقام التي تٌعرض في الصحف عن أراء الناس هي أرقام وهمية ومشكوك فيها بدرجة كبيرة, ليس بالضرورة لأن القائمين على المؤسسات الحكومية أو مراكز الرأي العام يقومون بتزوير البيانات والآراء ولكن لأن الناس نادرا ما يفصحون عن أراءهم الحقيقية في أي موضوع.
المصريون مثل كل الشعوب الخاضعة للحكم الاستبدادي يعلمون جيدا أن كل تصرفاتهم وأقوالهم وأنفاسهم خاضعة للمراقبة ومحسوبة عليهم , يعلمون أن أي كلمة خاطئة يتفوهون بها يمكن أن تلقي بهم وبأحبائهم إلى الجحيم, المصير البائس الذي يعاني منه من تجرأوا ورفعوا اصواتهم وعبروا عن معارضتهم لنظام الحكم جعلت عدد كبيرا من الناس لا يكتفون بالسير بجوار الحائط بل يحفرون لأنفسهم مكانا داخل الحائط ويدفنون أنفسهم فيه, وصاروا يلتزمون الصمت حيال كل الشئون العامة وحتى الخاصة ويراقبون أنفسهم باستمرار لكي لا يخطئوا ويقولوا شيئا يحٌسب عليهم.
عندما يتم الضغط على المواطنين من أجل التعبير عن أراءهم فإنهم يفضلون التفوه بالكلام الجميل المزيف المخادع الذي يُطمئن أصحاب السلطة ويوهمهم أنهم يسيرون في الطريح الصحيح, وهكذا صار لكل مواطن رأيين : رأي علني موافق ومؤيد دائما , ورأي سري وهو الرأي الحقيقي الذي يعبر عن قناعاته وأفكاره, وعادة ما يحتفظ المواطن برأيه الحقيقي لنفسه ولا يبوح به إلا في الجلسات الخاصة مع أهله أو اصدقائه الموثوق فيهم.
خوف المواطن من التبعات الخطيرة التي تترتب على تعبيره عن رأيه يجبره على أن يصير منافقا وكاذبا وجبانا رغما عنه. سلبية المواطن المصري وصمته حيال ما يحدث من ظلم واستبداد وقمع له ولأبناء وطنه هو السبب الرئيسي في استمرار الحكم الديكتاتوري في مصر حتى الآن, ولكنه في الوقت نفسه السبب في عدم قدرة النظام على معرفة ما يدور في عقول المواطنين أو التنبؤ بردود أفعالهم حيال القرارات السياسية والاقتصادية.
ليس من الغريب أن أغلب المسئولين فوجئوا بحدوث ثورة يناير, أنهم لم يتوقعوا أو حتى يتخيلوا أن يملك الشعب كل هذا القدر من الغضب تجاه النظام الحاكم لأن الشعب كان يخدعهم بالصمت أو بالتأييد المزيف الذي يظهر في استطلاعات الرأي وفي برامج التليفزيون, لكن عندما حانت اللحظة المناسبة انفجر الشعب واعلن عن موقفه الحقيقي.
قد يسأل أحدهم إن كانت استطلاعات الرأي أغلبها كاذبة ومزيفة لماذا يتم إجراءها ؟ الإجابة هي أن من يجري تلك الاستطلاعات يريد أن يُرضي المسئولين ويطمئنهم بتلك الأرقام, وفي الوقت نفسه يريد أن يوحي للمواطنين الذين يقرأون الأخبار أن كل شيء على ما يرام والأمور مستقرة والناس سعداء, وأن المعارضين والثائرين من الأقلية وهذه ليست الحقيقة بالطبع.
وسائل الإعلام تكذب على الناس والناس يعلمون أن الإعلام يكذب عليهم, ومع ذلك فإن الإعلام مستمر في الكذب والناس مستمرون في التظاهر بتصديق تلك الاكاذيب, ولا أحد يعلم إلى متى
ستستمر هذه التمثيلية السخيفة.
هذه الفكرة عبر عنها الأديب الكبير نجيب محفوظ في قصته الشهيرة الحب فوق هضة الهرم
"
“لقد انتزعت الثقة ثم ماتت .. ثم دفنت .. انهم كذابون .. كذابون .. كذابون .. ويعلمون أنهم كذابون .. ويعلمون أننا نعلم أنهم كذابون .. ومع ذلك فهم يكذبون بأعلى صوت .. ويتصدرون القافلة”
عندما تحولت القصة إلى فيلم شهير قام ببطولته أحمد زكي وردت على لسانه هذه العبارة بشكل آخر
( كلهم كدابين وعارفين انهم كدابين وعارفين اننا عارفين انهم كدابين ومع ذلك مستمرين في الكدب )
0 تعليقات
رأيك يهمني اترك تعليقك على ما قرأته